أم "فارس".
نُشرت هذه القصة فى جريدة "الديار" ــ العدد 460 ــ بتاريخ 8 يتاير 2019.
كل الشكر و التقدير للأستاذ "عصام عامر".
وضعت له طعام العشاء فى حجرته ثم اتجهت إلى حجرتها. لم تستطع النوم، كالعادة، ظلت تتقلب فى الفراش. مع آذان الفجر سمعت الباب يُفتح و يُغلق. بعد أن اطمأنت لعودة ابنها "فارس" غطت فى نوم عميق قريرة العين.
هذا هو موعد عودته منذ قيام الثورة. يخرج بعد صلاة العصر و يعود مع آذان الفجر. حاولت منعه من هذا النشاط المُحرم. لكنها لم تستطع إقناعه، يتحدث بثقة شديدة و إيمان كبير بينما الأحلام تتراقص فى أعماق عينيه، و هى تدرك، فى داخلها، أنه يسير فى الطريق الصحيح.
فى البداية خرج يهتف بسقوط "مبارك" ثم تحول الهتاف إلى سقوط حكم العسكر و أخيرًا خرج يهتف بسقوط حكم "المرشد". فى هذه اللحظة اشتمت، بفطرتها النقية، رائحة الذئاب الماكرة المتربصة، فسألته لماذا يُغير هتافه؟ فقال لها:
ـ لكى ينعم أولادى بالمستقبل.
شهقت قائلة:
ـ كيف يكون لك أولاد و أنت لم تتزوج بعد؟
ابتسم قائلًا:
ـ سأتزوج قريبًا و سيكون لى أولاد.
فى هذه اللحظة اختفى "فارس" لمدة أسبوعين و ربما شهرين، لا تتذكر جيدًا. كل ما تذكره أن حياتها أصبحت قاحلة السواد بدونه، البيت أصبح موحشًا مرعبًا بدون قرة عينها. فى هذه الفترة أُصيبت بمرض الرعاش بالرغم من أنها لم تتجاوز الخمسين من العمر. ربما لا يكون المرض فى الأعصاب فقط بل فى المخ أيضًا. فى هذه الأيام قال لها جارها الطبيب أن الإنسان الذكى هو الذى يعرف كيف يتأقلم مع الحياة.
عاد "فارس". اعتصرته فى حضنها لتروى عطش قلبها الذى كاد أن يتحول إلى صحراء جرداء. طلب منها الالتزام بالنوم مبكرًا حفاظًا على صحتها. استجابت لطلبه لكن قبل أن تسكن إلى فراشها تعد له طعام العشاء و لا تستطيع النوم إلا بعد عودته. ما يزعجها أنه أصبح لا يأكل فى البيت أبدًا. فى الصباح تجد طعامه كما هو. تتحدث معه لمدة ساعة أو ساعتين قبل أن يخرج مع صلاة العصر. ثم تذهب لترتيب حجرته فتجدها مرتبة بدقة و عناية. يبدو أنه لاحظ مرضها فأصبح يرتب حجرته ليريحها.
بالأمس سمعت حركات جميلة تؤنس وحدتها من حجرته. فتحت الباب لتجده يجلس مبتسمًا بين طفلتين فى غاية الحسن و الجمال. إحداهن فى الثالثة و الأخرى فى الخامسة. الرائحة الزكية العطرة تفوح من الطفلتين، سألته عن الطفلتين فقال إنهن ابنتاه. سألته فى دهشة:
ـ متى تزوجت؟
فأجاب بأن هذا لا يهم. المهم أصبح له طفلتين ملائكيتين.
فى الصباح اندهشت جارتها عندما أخبرتها بزواج "فارس". طلبت منها أن تأتى أثناء الليل لتبات معها. لكنها رفضت تمامًا، كيف تترك "فارس" و طفلتيه الملائكيتين. لمحت فى عينىّ جارتها نظرات غامضة مريبة.
ذهبت إلى "فارس" لتشكو له موقف جارتها فقال لها:
ـ لا تشغلى بالك بالناس. إيمانهم ضعيف. لا يعلمون أن أمثالى من الشهداء لا يموتون.
* هذه القصة من مجموعة "انتظار" المكونة من 25 قصة قصيرة، تصدر عن دار أطلس للنشر و الإنتاج الإعلامى فى معرض القاهرة للكتاب 2019، إن شاء الله.
* نرجو أن تنال قبولكم.
0 التعليقات:
إرسال تعليق