ذهب أبناءها يلهون بالكرة مع أصدقائهما، و جلست "فاطمة" تتناول الشاى بمفردها فى الشرفة. الدار مقامة على أطراف مدينة "عمان" العريقة. الصحراء مترامية الأطراف. القطار يمر من بعيد لا يأبه لأحد. خلف قضبان السكة الحديد تمتد مزارع الزيتون و النخيل. النخيل يتمايل، يترنح كأنه يبكى و ينتحب و هو يودع الشمس إلى مثواها الأخير...
رأت سيارة زوجها " مروان " تقترب، يبدو أن هناك ضيفاً برفقته. إستنشقت نفساً عميقاً فى استسلام ثم اتجهت إلى المطبخ لإعداد العشاء. سمعت زوجها و هو يرحب بضيفه. بعد قليل رأته بجوارها فى المطبخ و على شفتيه إبتسامة مضطربة، سألته عن السبب، فأجاب:
- ضيفنا تاجر من منطقة "السلط".
تحجرت "فاطمة" فى مكانها دون أية حركة، إلتمعت عيناها ببريق الذهول ثم سألت بصوت متهدج:
- ماذا تقصد؟
- الرجل يقول أن لديه أخبار عن "مريم".
إنتفضت كل عروقها و هى تقول فى عناد:
- سنسافر الآن.
حاول "مروان" أن يبدو متماسكاً و هو يربت على كتف زوجته و يقول:
- سنسافر مع آذان الفجر.
ألقت "فاطمة " الأطباق التى كانت على المنضدة و هى تصرخ فى جنون:
- سنسافرالآن.
إقتحم الضيف المطبخ و هو يسأل عما حدث، فراحت "فاطمة" تضرب المنضدة بكل ما أوتيت من قوة و هى تصرخ باكية:
- سنسافر الآن .. الآن ..
فى الطريق كان الظلام موحشاً و الضباب مرعباً. إستندت "فاطمة" برأسها على نافذة السيارة، إرتجفت رجفات خفيفة سريعة مع الطريق، ثم أغمضت عينيها فى استسلام.
لقد عبرت هذا الطريق من قبل لكن فى الاتجاه المعاكس. حدث ذلك منذ ستة سنوات تقريباً، حدث ذلك فى عام 1967، عندما هاجم الجيش الإسرائيلى مدينة "القدس". فى هذه الأيام راح "مروان" يلملم كل ما خف وزنه و غلا ثمنه، ثم فروا هاربين فى اتجاه الأردن. فى منطقة وادى الكرامة إلتقوا كتيبة عسكرية تابعة للجيش الأردنى. كانت الكتيبة فى طريقها إلى منطقة "السلط". وافق القائد على انضمامهم للكتيبة لحمايتهم من مخاطر الصحراء و الهجوم الإسرائيلى الكثيف. عاون الأب الطفلان على الصعود إلى أحد العربات، بينما حمل أحد الضباط الطفلة الرضيعة "مريم" حتى تتمكن "فاطمة " من الصعود إلى العربة المرتفعة. فى أثناء ذلك عاودت المروحيات الإسرائيلية هجومها. إشتعلت النيران فى كل مكان، زلزلت الأرض تحت الأقدام. جرى الجميع، كل منهم يختبىء فى ماكن مختلف. عندما ذهبت المروحيات خرجوا من مخابئهم. لم يكن هناك سوى "مروان" و الطفلان و "فاطمة". راحوا يفتشون عن "مريم" بين العربات العسكرية المشتعلة. الجثث تتناثر فى كل مكان، الأرض تتشرب الدماء، رائحة النابالم تزكم الأنوف... اختفت "مريم" و الضابط الذى كان يحملها. فتشوا فى كل الكهوف و الجحور، صرخت "فاطمة" بكل قوتها تنادى: "مريم "..."مريم"... فراح صوتها يجلجل فى الصحراء دون مجيب...
ذهبوا إلى مدينة "السلط". حاول الأب البحث فى السجلات العسكرية عن أسماء الضباط الذين كانوا فى الكتيبة. اتصل بهم جميعاً دون جدوى... فى النهاية قال أحد القادة:
- لو كنتم تقصدون الكتيبة "76 مدرعات "، للأسف، لم يعد منها أحد.
عندما سمعت "فاطمة" ذلك سقطت مغشياً عليها. طالت فترة الغيبوبة إلى أن إستدعوا الطبيب الذى أمر بحجزها فى غرفة مظلمة بمفردها. حذر زوجها من أى صوت أو ضوء. ارتفاع ضغط الدم الشديد المفاجىء الذى حدث قد يصيب خلايا المخ بالتلف. لا بد من الالتزام بالهدوء و الحذر الشديد...
لولا الولدان لاستسلمت "فاطمة" للمرض حتى الموت. لم تقاوم و تجاهد إلا من أجلهما.. استعادت عافيتها فى خلال بضعة أسابيع. و رحلوا جميعاً إلى مدينة "عمان".
عندما استأجر "مروان" هذه الدار على أطراف المدينة، أعدت "فاطمة" حجرة خاصة لـ "مريم" و هى تقول لزوجها: لا بد ستعود فى يوم من الأيام. يجب أن يكون لها حجرة منفصلة عن حجرة الغلامان... فراح يربت عليها برفق موافقاً و إن كان فى داخله قد استسلم تماماً للأمر الواقع و بدأ يعاود نشاطه التجارى مرة أخرى...
اليوم، إلتقى مصادفة هذا التاجر. قص عليه قصة "مريم" لمجرد الثرثرة فقط، فإذا بالتاجر يخبره بأن هناك طفلة فى السادسة من العمر الآن، أتى بها أحد الضباط من "السلط" و قد قامت إحدى نساء البلدة بحضانتها و رعايتها...
إنتفضت عروق "مروان" فى عصبية، إنفجر بركان الأمل من جديد. من يدرى؟!... ربما تكون الكتيبة التى إلتقوها تختلف عن الكتيبة "76مدرعات"... و هم الجميع بالرحيل فى قلق...
وصلوا إلى البلدة بعد منتصف الليل، راحوا يجوسون فى الظلام كأنهم أرواح هائمة شقية تبحث عن ضالتها، بينما راحت "فاطمة" تقفز فى نشوة، تتعثر فى الظلام، تضم جلبابها و هى تضحك فى جنون، ثم تقول فى تهدج:
- كنت أشعر بها دائماً على قيد الحياة.. أسمعها أثناء الليل و هى تنادينى.. قلب الأم لا يكذب أبداً... أبداً...
إقتحموا الدار فى غبش الظلام. إعتصرت "فاطمة" الطفلة الهزيلة التى أشارت إليها ربة المنزل... إختلطت دموع الابنة بدموع الأم. بكى الجميع فى فرح، زغردت صاحبة الدار و إن كان قلبها يخفق بشدة لمرارة الفراق، بينما راح "مروان" ينتزع الطفلة فى عصبية من أحضان "فاطمة" الملتاعة، فحص قدمها اليسرى ثم صرخ فى جنون:
- هل جننت ؟.. إعقلى.
سألت صاحبة الدار فى قلق:
- ماذا تقصد؟
أجاب "مروان" و العرق يتفصد منه بغزارة:
- إنها مثل ابنتى، و ليست ابنتى.
سأل التاجر فى ذهول:
- كيف عرفت ذلك بمثل هذه السرعة؟
ألقى "مروان" بكل ثقله على المقعد فى استسلام ثم قال:
- فى الطريق كنا نقضى الليل فى الكهوف. فى أحد هذه الكهوف إلتهم الفأر إصبع قدم "مريم" اليسرى.. و قدم هذه الفتاة سليمة..
عادت "فاطمة" إلى "عمان" و هى تمسك برأسها. طنين غريب يصم أذنيها. طلقات نارية تخترق رأسها. إنفجار البارود مصحوباً بالموسيقى الصاخبة، ثم ضحكات ماجنة ساخرة.
منذ هذا اليوم، أصرت على المبيت بمفردها فى حجرة "مريم". وافق الزوج على مضض. بعد يومين حاول مداعبتها، فنهرته قائلة:
- "مريم" إلتحقت بالمدرسة.
تحجر فى مكانه و هو ينظر إليها متشككاً، فقالت مؤكدة:
- رأيتها بالأمس تجلس فى حجرتها، تخط بيدها الصغيرة كلمات بسيطة فى خط متعرج. تهز رأسها من حين لآخر سعيدة بضفيرتها الطويلة. تحك رأسها بيدها و هى ممسكة بالقلم محاولة التركيز فى دروسها، فيخط القلم على وجهها دون أن تشعر بذلك، فأخذت بيدها لأعينها على الكتابة...
إحتقن وجه "مروان " بدماء الغضب، ثم قال ثائراً:
- يجب أن تعلمى أن "مريم" ماتت. يجب الاهتمام بطفلينا لأنهما المستقبل.
إتهمته "فاطمة" بالأنانية و الجشع، يبحث عن المال فى كل مكان و يهمل البحث عن ابنته...
خرج "مروان" من الدار غاضباً. أصبح لا يأتى إلا نادراً...علمت من الجيران أنه تزوج بأخرى. إشترى لها داراً أخرى قريبة من هنا، يقضى معها أوقاتاً سعيدة و حياة هانئة وادعة، بعيداً عن الأوهام و الأحزان...
لم تحاول استعادة زوجها. لم تعاتبه أو تناقشه... أصبحت تخدم طفليها طوال النهار بجد و إخلاص كأنها جارية تنفذ أوامر أسيادها دون نقاش. تخرج إلى السوق لشراء لوازم البيت دون أن تبدل ثيابها. تترك شعرها مهوشاً.. تتشاجر أحياناً مع البائعين لأتفه الأسباب. أحياناً أخرى تصمت لمدة أسبوع كامل... تمرالأيام و هى تفقد أنوثتها و كل إحساس بالحياة...
فى ذات يوم، إستيقظت من نومها فى قمة السعادة. راحت تغنى و ترقص و هى ترتدى ملابس جديدة. مشطت شعرها بدقة، وضعت بعض مساحيق التجميل ثم انطلقت توزع أكواب الشربات على الجيران و هى تجيب كل من يسألها عن السبب بصوت متهدج مرح:
- "مريم" إلتحقت اليوم بكلية الهندسة.
مصمصت الجارات شفاههن فى شفقة، فراحت تؤكد لهن:
- "مريم" نفسها هى التى أخبرتنى بذلك. كافحت المسكينة كثيراً لكى تكون مهندسة تبنى و تعمر كل مكان...
منذ هذا اليوم، بدأ الشعور بالإرتياح يجتاح نفسها. ربما يكون هذا الإريتاح ناتجاً عن ثقة المؤمن بربه... أو الاستسلام لقضائه... لا أحد يعرف... أصبحت تخدم ولديها بنفس راضية، تتعامل مع الجيران و البائعين برصانة.. عندما ينقضى النهار، تخلد إلى النوم فى هدوء و هى تؤكد لنفسها أن المروحيات الإسرائيلية لم و لن تقضى على حياة "مريم".
لكن، دائماً لكن... فترات السعادة لا تدوم كثيراً. كبر الولدان. رحل الابن الأكبر إلى "دمشق" لتنمية تجارة والده. بعد عدة أشهر رحل الابن الأصغر إلى "القاهرة" بحثاً عن أسواق جديدة... بقيت "فاطمة" وحدها فى الدار الكبيرة...
راحت تتجول بين حجرات الدار بمفردها. دقات حذائها تتردد عالية فيرتجف القلب برهبة. فى أثناء الليل يسمعها الجيران و هى تصرخ و تنتحب، تنادى أولادها الثلاث دون مجيب...
شعرت بشبح الموت يحوم حولها فقررت الرحيل إلى "دمشق" لقضاء بضعة أيام مع ابنها ثم إلى "القاهرة" لقضاء أيام أخرى مع ابنها الأصغر... لا يوجد ما هو أبشع من أن يموت الانسان وحيداً دون أن يشعر به أحد.
لملمت بعض حاجياتها القليلة و انطلقت إلى الحافلة الذاهبة إلى "دمشق". فى الطريق وقفت الحافلة فى منطقة "الرمان" للإستراحة. كان الناس يهرولون إلى المسجد الأبيض لأداء صلاة العشاء فانطلقت معهم. بعد الصلاة مددت جسدها المثقل بحثاً عن بعض الراحة.
شعرت بعصا تنغرس فى جنبها. هبت جالسة لترى أمامها شيخاً عجوزاً يرتدى جلباباً أبيض، له لحية بيضاء كثيفة، عيناه تلتمعان ببريق الثقة و الإيمان. قال الشيخ مبتسماً فى هدوء:
- يجب أن نغلق المسجد الآن. المبيت هنا ممنوع.
خرجت من المسجد تتلفت حول نفسها فى جزع. رحلت الحافلة... ماذا تفعل؟... ليس معها نقود أو أى أوراق تثبت شخصيتها.. لا تعرف أحد هنا... لاحظ الشيخ إرتباكها. علم بحكايتها فربت على كتفها برفق قائلاً:
- سأحضر لك العشاء الآن. فى الصباح سأدفع لك مصاريف الرحلة من أموال الزكاة الموجودة فى المسجد.
بكت و هى تقول:
- ليس لدى أى رغبة فى الطعام.
- ماذا تريدين إذن؟
إنفجرت فى البكاء مثل طفل صغير ثم قالت فى تهدج:
- أريد رؤية أولادى. أريد الإطمئنان على "مريم" و رضيعها قبل أن أموت.
ثم راحت تقص عليه قصة "مريم" و صدرها يعلو و يهبط فى تشنجات عنيفة... ثم أكملت:
ـ أشعر بها قريبة منى. أعلم أنها أصبحت مهندسة و أنها تزوجت و أنجبت.. لا أعرف أين هى؟
جحظت عينا الشيخ فى ذهول ثم قال بصوت متحشرج:
- أصبحت مهندسة بالفعل، تعيش هنا مع زوجها و ابنها الرضيع. ابنتك هى التى شيدت هذا المسجد بعد أن درست الهندسة المعمارية... أنا الذى ربيتها بعد مقتل الضابط الذى كانت معه، و مازلت أحتفظ بالملابس التى كانت ترتديها حتى الآن.
برقت عيناها فى هلع، تشنجت كل عضلات وجهها. هبت تسجد شكراً لله، ثم التفتت إليه تقبل يده و هى ترجوه أن يقودها إلى "مريم" الآن…
أخذت "فاطمة" ابنتها فى أحضانها بعد فراق طال أكثر من ربع قرن… بكى الجميع فى فرح و شجن و ألم… بعد أن هدأت ضجة اللقاء حاولت "مريم" إطعام أمها بيدها لعل هذا يخفف عنها بعض الحرمان، بيد أن "فاطمة" رفضت بشدة و هى تقول:
- لا أرغب إلا فى النوم بهدوء و حفيدى فى حضنى.
جرت "مريم" تعد فراشاً وثيراً فى عجالة. فى الصباح ، أيقظوا "فاطمة" فلم تستيقظ .فاضت روحها إلى ربها الكريم بينما كان الحفيد يلهو بجوارها فى الفراش...
رأت سيارة زوجها " مروان " تقترب، يبدو أن هناك ضيفاً برفقته. إستنشقت نفساً عميقاً فى استسلام ثم اتجهت إلى المطبخ لإعداد العشاء. سمعت زوجها و هو يرحب بضيفه. بعد قليل رأته بجوارها فى المطبخ و على شفتيه إبتسامة مضطربة، سألته عن السبب، فأجاب:
- ضيفنا تاجر من منطقة "السلط".
تحجرت "فاطمة" فى مكانها دون أية حركة، إلتمعت عيناها ببريق الذهول ثم سألت بصوت متهدج:
- ماذا تقصد؟
- الرجل يقول أن لديه أخبار عن "مريم".
إنتفضت كل عروقها و هى تقول فى عناد:
- سنسافر الآن.
حاول "مروان" أن يبدو متماسكاً و هو يربت على كتف زوجته و يقول:
- سنسافر مع آذان الفجر.
ألقت "فاطمة " الأطباق التى كانت على المنضدة و هى تصرخ فى جنون:
- سنسافرالآن.
إقتحم الضيف المطبخ و هو يسأل عما حدث، فراحت "فاطمة" تضرب المنضدة بكل ما أوتيت من قوة و هى تصرخ باكية:
- سنسافر الآن .. الآن ..
فى الطريق كان الظلام موحشاً و الضباب مرعباً. إستندت "فاطمة" برأسها على نافذة السيارة، إرتجفت رجفات خفيفة سريعة مع الطريق، ثم أغمضت عينيها فى استسلام.
لقد عبرت هذا الطريق من قبل لكن فى الاتجاه المعاكس. حدث ذلك منذ ستة سنوات تقريباً، حدث ذلك فى عام 1967، عندما هاجم الجيش الإسرائيلى مدينة "القدس". فى هذه الأيام راح "مروان" يلملم كل ما خف وزنه و غلا ثمنه، ثم فروا هاربين فى اتجاه الأردن. فى منطقة وادى الكرامة إلتقوا كتيبة عسكرية تابعة للجيش الأردنى. كانت الكتيبة فى طريقها إلى منطقة "السلط". وافق القائد على انضمامهم للكتيبة لحمايتهم من مخاطر الصحراء و الهجوم الإسرائيلى الكثيف. عاون الأب الطفلان على الصعود إلى أحد العربات، بينما حمل أحد الضباط الطفلة الرضيعة "مريم" حتى تتمكن "فاطمة " من الصعود إلى العربة المرتفعة. فى أثناء ذلك عاودت المروحيات الإسرائيلية هجومها. إشتعلت النيران فى كل مكان، زلزلت الأرض تحت الأقدام. جرى الجميع، كل منهم يختبىء فى ماكن مختلف. عندما ذهبت المروحيات خرجوا من مخابئهم. لم يكن هناك سوى "مروان" و الطفلان و "فاطمة". راحوا يفتشون عن "مريم" بين العربات العسكرية المشتعلة. الجثث تتناثر فى كل مكان، الأرض تتشرب الدماء، رائحة النابالم تزكم الأنوف... اختفت "مريم" و الضابط الذى كان يحملها. فتشوا فى كل الكهوف و الجحور، صرخت "فاطمة" بكل قوتها تنادى: "مريم "..."مريم"... فراح صوتها يجلجل فى الصحراء دون مجيب...
ذهبوا إلى مدينة "السلط". حاول الأب البحث فى السجلات العسكرية عن أسماء الضباط الذين كانوا فى الكتيبة. اتصل بهم جميعاً دون جدوى... فى النهاية قال أحد القادة:
- لو كنتم تقصدون الكتيبة "76 مدرعات "، للأسف، لم يعد منها أحد.
عندما سمعت "فاطمة" ذلك سقطت مغشياً عليها. طالت فترة الغيبوبة إلى أن إستدعوا الطبيب الذى أمر بحجزها فى غرفة مظلمة بمفردها. حذر زوجها من أى صوت أو ضوء. ارتفاع ضغط الدم الشديد المفاجىء الذى حدث قد يصيب خلايا المخ بالتلف. لا بد من الالتزام بالهدوء و الحذر الشديد...
لولا الولدان لاستسلمت "فاطمة" للمرض حتى الموت. لم تقاوم و تجاهد إلا من أجلهما.. استعادت عافيتها فى خلال بضعة أسابيع. و رحلوا جميعاً إلى مدينة "عمان".
عندما استأجر "مروان" هذه الدار على أطراف المدينة، أعدت "فاطمة" حجرة خاصة لـ "مريم" و هى تقول لزوجها: لا بد ستعود فى يوم من الأيام. يجب أن يكون لها حجرة منفصلة عن حجرة الغلامان... فراح يربت عليها برفق موافقاً و إن كان فى داخله قد استسلم تماماً للأمر الواقع و بدأ يعاود نشاطه التجارى مرة أخرى...
اليوم، إلتقى مصادفة هذا التاجر. قص عليه قصة "مريم" لمجرد الثرثرة فقط، فإذا بالتاجر يخبره بأن هناك طفلة فى السادسة من العمر الآن، أتى بها أحد الضباط من "السلط" و قد قامت إحدى نساء البلدة بحضانتها و رعايتها...
إنتفضت عروق "مروان" فى عصبية، إنفجر بركان الأمل من جديد. من يدرى؟!... ربما تكون الكتيبة التى إلتقوها تختلف عن الكتيبة "76مدرعات"... و هم الجميع بالرحيل فى قلق...
وصلوا إلى البلدة بعد منتصف الليل، راحوا يجوسون فى الظلام كأنهم أرواح هائمة شقية تبحث عن ضالتها، بينما راحت "فاطمة" تقفز فى نشوة، تتعثر فى الظلام، تضم جلبابها و هى تضحك فى جنون، ثم تقول فى تهدج:
- كنت أشعر بها دائماً على قيد الحياة.. أسمعها أثناء الليل و هى تنادينى.. قلب الأم لا يكذب أبداً... أبداً...
إقتحموا الدار فى غبش الظلام. إعتصرت "فاطمة" الطفلة الهزيلة التى أشارت إليها ربة المنزل... إختلطت دموع الابنة بدموع الأم. بكى الجميع فى فرح، زغردت صاحبة الدار و إن كان قلبها يخفق بشدة لمرارة الفراق، بينما راح "مروان" ينتزع الطفلة فى عصبية من أحضان "فاطمة" الملتاعة، فحص قدمها اليسرى ثم صرخ فى جنون:
- هل جننت ؟.. إعقلى.
سألت صاحبة الدار فى قلق:
- ماذا تقصد؟
أجاب "مروان" و العرق يتفصد منه بغزارة:
- إنها مثل ابنتى، و ليست ابنتى.
سأل التاجر فى ذهول:
- كيف عرفت ذلك بمثل هذه السرعة؟
ألقى "مروان" بكل ثقله على المقعد فى استسلام ثم قال:
- فى الطريق كنا نقضى الليل فى الكهوف. فى أحد هذه الكهوف إلتهم الفأر إصبع قدم "مريم" اليسرى.. و قدم هذه الفتاة سليمة..
عادت "فاطمة" إلى "عمان" و هى تمسك برأسها. طنين غريب يصم أذنيها. طلقات نارية تخترق رأسها. إنفجار البارود مصحوباً بالموسيقى الصاخبة، ثم ضحكات ماجنة ساخرة.
منذ هذا اليوم، أصرت على المبيت بمفردها فى حجرة "مريم". وافق الزوج على مضض. بعد يومين حاول مداعبتها، فنهرته قائلة:
- "مريم" إلتحقت بالمدرسة.
تحجر فى مكانه و هو ينظر إليها متشككاً، فقالت مؤكدة:
- رأيتها بالأمس تجلس فى حجرتها، تخط بيدها الصغيرة كلمات بسيطة فى خط متعرج. تهز رأسها من حين لآخر سعيدة بضفيرتها الطويلة. تحك رأسها بيدها و هى ممسكة بالقلم محاولة التركيز فى دروسها، فيخط القلم على وجهها دون أن تشعر بذلك، فأخذت بيدها لأعينها على الكتابة...
إحتقن وجه "مروان " بدماء الغضب، ثم قال ثائراً:
- يجب أن تعلمى أن "مريم" ماتت. يجب الاهتمام بطفلينا لأنهما المستقبل.
إتهمته "فاطمة" بالأنانية و الجشع، يبحث عن المال فى كل مكان و يهمل البحث عن ابنته...
خرج "مروان" من الدار غاضباً. أصبح لا يأتى إلا نادراً...علمت من الجيران أنه تزوج بأخرى. إشترى لها داراً أخرى قريبة من هنا، يقضى معها أوقاتاً سعيدة و حياة هانئة وادعة، بعيداً عن الأوهام و الأحزان...
لم تحاول استعادة زوجها. لم تعاتبه أو تناقشه... أصبحت تخدم طفليها طوال النهار بجد و إخلاص كأنها جارية تنفذ أوامر أسيادها دون نقاش. تخرج إلى السوق لشراء لوازم البيت دون أن تبدل ثيابها. تترك شعرها مهوشاً.. تتشاجر أحياناً مع البائعين لأتفه الأسباب. أحياناً أخرى تصمت لمدة أسبوع كامل... تمرالأيام و هى تفقد أنوثتها و كل إحساس بالحياة...
فى ذات يوم، إستيقظت من نومها فى قمة السعادة. راحت تغنى و ترقص و هى ترتدى ملابس جديدة. مشطت شعرها بدقة، وضعت بعض مساحيق التجميل ثم انطلقت توزع أكواب الشربات على الجيران و هى تجيب كل من يسألها عن السبب بصوت متهدج مرح:
- "مريم" إلتحقت اليوم بكلية الهندسة.
مصمصت الجارات شفاههن فى شفقة، فراحت تؤكد لهن:
- "مريم" نفسها هى التى أخبرتنى بذلك. كافحت المسكينة كثيراً لكى تكون مهندسة تبنى و تعمر كل مكان...
منذ هذا اليوم، بدأ الشعور بالإرتياح يجتاح نفسها. ربما يكون هذا الإريتاح ناتجاً عن ثقة المؤمن بربه... أو الاستسلام لقضائه... لا أحد يعرف... أصبحت تخدم ولديها بنفس راضية، تتعامل مع الجيران و البائعين برصانة.. عندما ينقضى النهار، تخلد إلى النوم فى هدوء و هى تؤكد لنفسها أن المروحيات الإسرائيلية لم و لن تقضى على حياة "مريم".
لكن، دائماً لكن... فترات السعادة لا تدوم كثيراً. كبر الولدان. رحل الابن الأكبر إلى "دمشق" لتنمية تجارة والده. بعد عدة أشهر رحل الابن الأصغر إلى "القاهرة" بحثاً عن أسواق جديدة... بقيت "فاطمة" وحدها فى الدار الكبيرة...
راحت تتجول بين حجرات الدار بمفردها. دقات حذائها تتردد عالية فيرتجف القلب برهبة. فى أثناء الليل يسمعها الجيران و هى تصرخ و تنتحب، تنادى أولادها الثلاث دون مجيب...
شعرت بشبح الموت يحوم حولها فقررت الرحيل إلى "دمشق" لقضاء بضعة أيام مع ابنها ثم إلى "القاهرة" لقضاء أيام أخرى مع ابنها الأصغر... لا يوجد ما هو أبشع من أن يموت الانسان وحيداً دون أن يشعر به أحد.
لملمت بعض حاجياتها القليلة و انطلقت إلى الحافلة الذاهبة إلى "دمشق". فى الطريق وقفت الحافلة فى منطقة "الرمان" للإستراحة. كان الناس يهرولون إلى المسجد الأبيض لأداء صلاة العشاء فانطلقت معهم. بعد الصلاة مددت جسدها المثقل بحثاً عن بعض الراحة.
شعرت بعصا تنغرس فى جنبها. هبت جالسة لترى أمامها شيخاً عجوزاً يرتدى جلباباً أبيض، له لحية بيضاء كثيفة، عيناه تلتمعان ببريق الثقة و الإيمان. قال الشيخ مبتسماً فى هدوء:
- يجب أن نغلق المسجد الآن. المبيت هنا ممنوع.
خرجت من المسجد تتلفت حول نفسها فى جزع. رحلت الحافلة... ماذا تفعل؟... ليس معها نقود أو أى أوراق تثبت شخصيتها.. لا تعرف أحد هنا... لاحظ الشيخ إرتباكها. علم بحكايتها فربت على كتفها برفق قائلاً:
- سأحضر لك العشاء الآن. فى الصباح سأدفع لك مصاريف الرحلة من أموال الزكاة الموجودة فى المسجد.
بكت و هى تقول:
- ليس لدى أى رغبة فى الطعام.
- ماذا تريدين إذن؟
إنفجرت فى البكاء مثل طفل صغير ثم قالت فى تهدج:
- أريد رؤية أولادى. أريد الإطمئنان على "مريم" و رضيعها قبل أن أموت.
ثم راحت تقص عليه قصة "مريم" و صدرها يعلو و يهبط فى تشنجات عنيفة... ثم أكملت:
ـ أشعر بها قريبة منى. أعلم أنها أصبحت مهندسة و أنها تزوجت و أنجبت.. لا أعرف أين هى؟
جحظت عينا الشيخ فى ذهول ثم قال بصوت متحشرج:
- أصبحت مهندسة بالفعل، تعيش هنا مع زوجها و ابنها الرضيع. ابنتك هى التى شيدت هذا المسجد بعد أن درست الهندسة المعمارية... أنا الذى ربيتها بعد مقتل الضابط الذى كانت معه، و مازلت أحتفظ بالملابس التى كانت ترتديها حتى الآن.
برقت عيناها فى هلع، تشنجت كل عضلات وجهها. هبت تسجد شكراً لله، ثم التفتت إليه تقبل يده و هى ترجوه أن يقودها إلى "مريم" الآن…
أخذت "فاطمة" ابنتها فى أحضانها بعد فراق طال أكثر من ربع قرن… بكى الجميع فى فرح و شجن و ألم… بعد أن هدأت ضجة اللقاء حاولت "مريم" إطعام أمها بيدها لعل هذا يخفف عنها بعض الحرمان، بيد أن "فاطمة" رفضت بشدة و هى تقول:
- لا أرغب إلا فى النوم بهدوء و حفيدى فى حضنى.
جرت "مريم" تعد فراشاً وثيراً فى عجالة. فى الصباح ، أيقظوا "فاطمة" فلم تستيقظ .فاضت روحها إلى ربها الكريم بينما كان الحفيد يلهو بجوارها فى الفراش...
0 التعليقات:
إرسال تعليق