الخميس، 1 فبراير 2018

آلهة من طين بقلم القاص المبدع اشرف جاويش

رواية ( الهة من طين) لأشرف جاويش

الحلقة الأولى

   دار متواضعة البنيان تعصف الريح بجدرانها الطينيّة المتعرجة كأمواج بحر ثائر، بها حجرات ثلاث، يعلوها القشّ وقصب الذرة وأعواد الحطب الجافة، مرفق بها حجرة صغيرة دون المترين في اتساعها، ذات نافذة ضئيلة تُطلّ على خلاءٍ كئيب، بها كانون وبعض الأواني الفخاريّة ملقاة على لوح من الخشب في غير نظام، قد صبغها الكانون باللون الأسود كلون الحائط الذي يحتضنه، كما يمكنك أن ترى الكثير من أغصان الشجر الجافة وأعواد الحطب ُملقاة بالقرب من الزير ذي اللون المائل إلى الخضرة، بغطائه الخشبيّ، يعلوه كوب معدني فضيّ اللون. وما كان لك أن ُتبصر هذه الأشياء إلاّ بعد أن أشعلت "إحسان" المصباح المعلّق على الحائط، فينبعث نوره الخافت موقظاً تلك الأشياء من سباتها العميق. تبسط "إحسان" يدها اليسرى لتمسك الكوب المعدني بأناملها الرقيقة، بينما تضع ظاهر كفّها الأيمن على شفتيها الحمراوين وهي تتثاءب، وما أن تفرغ حتى ترفع الغطاء الخشبيّ بيدها اليمنى لتملأ الكوب بالماء، وتحكم إغلاق الزير مرة أخرى، ثم تنقل الكوب من يسراها إلى يمناها، وتذكر اسم الله وتشرب، وما أن يسري الماء في جسدها حتى تشعر بالنشوة تغمرها فتزيح وشاحها من فوق رأسها، كاشفة عن شعر شديد السواد كأنه ظلمة حالكة ذي ضفيرتين طويلتين ضاربتين حتى خصرها الممشوق. تسكب الماء في كفها الأيمن ليفيض على وجهها الغضّ ووجنتيها النضرتين، وأنفها الدقيق الطرف، وعينيها السوداوين الواسعتين كعيون المها، وما أن انتهت حتى خرجت إلى حيث يجلس الشيخ "علاّم" متربعا في منتصف الحجرة فوق سجادة الصلاة، وكان لما يرفل فيه من ثياب ناصعة البياض، وخرزات مسبحته البرّاقة، كأنها حبّات من اللؤلؤ يجمعها خيط من الحرير، ولحيته الطويلة الكثّة المنبسطة إلى ما يلي نحره، وشعر رأسه الأسود الذي عرف الشيب طريقه إليه منذ عهد غير بعيد، فأضفى عليه من الهيبة والوقار ما يجعل الناظر إليه يظنه للوهلة الأولى كأنه ملك تنزل في الثلث الأخير من الليل، تفصل أنامله بين خرزات مسبحته، بينما تتحرك شفتاه ولسانه بذكر الله في أناة وخشوع، ضارباً بناظريه إلى السماء. وتأتيه إحسان فتجلس بين يديه في هدوءٍ تام، تتأمل تقسيمات وجهه، تنظر إلى جبهته العريضة التي تشع نوراً من أثر السجود، إلى عينيه السوداوين، أنفه الكبير الذي يتناسب مع تقسيمات وجهه، شفتيه الغليظتين، وشاربه الكثّ الذي يصبّ في لحيته... وتظل هكذا فلا يخرجها من تأملاتها سوى الضباب الذي احتل حدقتيها عندما اغرورقت عيناها بالدموع، وفاضت حتى سالت على وجنتيها دون نهنهة أو صوت يدل على شدة ألمها. ولشد ما عجبت عندما أمسك الشيخ عن تسبيحه وذكره وبسط يده اليمنى حتى لمس خدها وتحسس في رقة بالغة صفحته، ومسح بعض دموعها بإبهامه متسائلا وقد تملّكه العجب: "فيم دموعك يا ابنتي؟" فتمسك بكفه بين يديها في دعة وتقبله في رقة، وتجيبه: "لا شيء .. لا شيء يا عمّي، تذكرت فقط أبي وأمّي.. لقد أخذني الشوق والحنين إليهما". فأخذ الشيخ نفساً عميقاً ليخفف من انقباض صدره، ثم ما لبث أن قال بصوت خفيض: "رحم الله أخي وزوجه، دهستهما عجلة الظلم كما دهست الكثيرين قبلهما". فحدجته الفتاة بنظرة عميقة، ثم سألته بنبرة بائسة: "كيف جئنا إلى جهنم هذه؟ ولماذا؟ أخبرتني أننا الرعاع – كما يطلقون علينا- أو الخدم والعبيد ..." لكنها تتوقف عن الحديث فجأة، تتذكر صوت أحد الزبانية المستوي على ظهر جواده، ممسكاً بزمامه في قبضة يده اليسرى وبسوط ثائر يلتهم أجساد الشيوخ والرجال والشباب، النحيل منهم والممتلئ على حد سواء، في يده اليمنى، فلا ُيراعي كرامة كهل ولا حرمة امرأة، وكان يكفيه لقبح منظر وجهه المائل إلى السواد، وأسنانه القذرة المتراكبة، وشفتيه الغليظتين القاسيتين، وبدانة جسده، أن يسوق قطيعاً من الرجال أمامه، كأنهم ُحمر وحشية فرت من أسد افترسه الجوع. تتذكره وخلفه عشرات من أتباعه الذين طبع عليهم من دمامة خلقته، وخشونة صوته، وقلّة حيائه وأدبه ما طبع، وقد اجتمع له الرعاع من الحقول وهم عُراة إلا ما يستر عوراتهم، فوقفوا بين يديه صفوفاً متراصة في نظام عجيب- على الرغم من كثرة أعدادهم- ناكسوا رؤوسهم كأنه يوم الحشر، فأخذ يتجول بينهم بجواده، وهو يصيح فيهم: "أيّها الرعاع، ما أنتم إلاّ عبيد تحت أقدامنا، تفعلون ما ُتؤمرون، لا تحيدون عنه قيد أنملة، وإلاّ أذقناكم العذاب الأليم، وإنّ لكم في السابقين لعبرة فاعتبروا، وحذار ثم حذار أن يخالج صدوركم ما تجترئون به على المعصية، فإنّ لكم لما تحدثكم به صدوركم نكالاً ووبالاً.. فكيف بالمعصية؟! أيتها الديدان المنبثقة من رمم الكلاب، كنتم بلا مأوى فأويناكم، وكنتم عرايا فكسوناكم، وكنتم جوعى فأطعمناكم، فحقّ عليكم السجود فاسجدوا". وكان أن سجدوا وأطالوا السجود يمرغون أنوفهم في الوحل، وقد امتلأت صدورهم ناراً مستعرة، وما هي إلاّ لحظات حتى دبّ البرق في صفحة السماء، وارتفع صوت الرعد الصاخب، وانطلقت الريح تعصف بكل شيء تمر عليه، تعصف بالبراري والأشجار، وتعصف بالشياطين على خيولهم، وكأنّ الكون قد أصبح حانقاً يعلن عن سخطه، حتى صاح "المنذر" بأتباعه: "هيا بنا، إنّ الجو ينذر بالمطر الغزير". ورحل الزبانية، واشتدّ هطول الأمطار فرفع الرعاع وجوههم التي صارت بلون الوحل، ولكنهم لم يستطيعوا أن يرفعوها إلى السماء، وكأنهم كان بهم من الحياء ما يحول بينهم وبين ذلك، ولكنّ دموعهم التي فاضت على وجوههم لتخلصهم من قذارة الشرك، كانت تقول نيابة عنهم: "لسنا كفرة، ولكننا ضعفاء لا حيلة لنا، على أنّ الموت خير لنا مما نحن فيه من ذل وهوان، لسنا كفرة ولكننا نوشك أن نكون".
     عادت إحسان بذاكرتها من الماضي، ليس بعهد سحيق، فلم تمض إلاّ شهور قلائل، عادت بسؤالها مرة أخرى: "كيف جئنا إلى جهنم هذه؟ ولماذا؟ أخبرني يا عمي.. فلقد أخبرتني من قبل أننا قدمنا من قرى عديدة، فكيف صرنا إلى ما نحن فيه؟"

رواية( الهة من طين) لأشرف جاويش

0 التعليقات:

إرسال تعليق