اقرأ| «الجوع» لنجيب محفوظ
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه، فلم تعد الخساره تهز أعصابه أو تكرب نفسه.
كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكؤوس وقذف الدعابات ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء، ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لشيء دار برأسه فرغب في تنسم هواء الخريف الرطب ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا وغادر النادي، وكان الجو لطيفا منعشا.
سارت به خطاه إلي الطريق المؤدي لقنطرة النيل حيث الهدوء الذي تعكره السيارات، وهنا رأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر متقوسا علي سور القنطرة ملقيا برأسه إلي النهر فلم يلق إليه بالا ومضي إلي نهاية القنطرة، وعندما عاد رأى الرجل في مكانه، قرب منه دون أن يشعر، وعندها هم الرجل بإلقاء نفسه في النهر لولا أن السيد محمد عبد القوي أدركه في لحظة فاصلة فأسقطه على الأرض بدلا من النهر ثم سأله: ماذا كنت فاعلا بنفسك؟ فلم يجبه الرجل!
فسأله مرة أخرى: هل كنت حقا تريد الانتحار؟ لماذا؟ دعني أشم فمك.. هل أنت ثمل أم مجنون؟ تكلم ياحيوان.
فقال الرجل بصوت مبحوح أنا جائع.
فنظر إليه الرجل قائلا: كذبت، إن الكلاب الضالة تجد قوتها ولن أصدق أن إنسانا يموت جوعا في هذا البلد، ولكن هل تدمن الحشيش؟ فقال الرجل لك عذرك، فأنت لم تعرف الجوع.. هل ذقت الجوع؟ هل بت ليلة بعد ليلة تتلوى من عض نابه؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك من نهشه معدتهم؟ هل رأيت صغارك يوما يمضغون عيدان الحصير ويأكلون طين الأرض؟! تكلم يا إنسان، وإن لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تحول بينى وبين الخلاص من غائلة الموت؟ فقال له محمد عبد القوي: أتعني حقا أن لك زوجا وأطفالا؟ فعلم الرجل أنه يشك في قوله فقال له: كنت يوما قادرا على الزواج والإنفاق.. كنت عاملا في مصانع عبد القوي شاكر، وهنا هز الاسم أركان الوجيه محمد عبد القوي لأنه اسم والده، ثم قال له: هل حقا كنت عاملا مرتزقا؟ فقال نعم وبلغت يوميتى ستة قروش، ولكن أثناء العمل هوت الآلة على يدي اليمنى فقطعتها ثم ذهبت إلى عبد القوي شاكر فقال لي إن يدك قطعت جراء عدم اهتمامك وهم بطردي من المكان فتوسلت إليه لأن في عنقي أمي وزوجتي وأطفالي الست، فقال لي إنه سيتصدق علي في كل شهر بثلاثين قرشا، ولما لم يجْد هذا المبلغ تعرض أطفالي وجاعت وتهالكنا من الجوع، فبدأت أتسول، وإن هذا الأمر لعظيم علي لولا محنتي فقال له الرجل: أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟ فقال الرجل وهو يهز رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر: عدت مساء هذا اليوم إلى الفناء فوجدت أطفالي الصغار وزوجتي نائمين، فاستولت عليّ الدهشة، هل تعودوا الجوع فما عاد يقرصهم؟ فأيقظت أكبر أطفالي لأسأله فما إن قام حتى قالي لي فرحا: أكلنا عيشا ساخنا، فسألته من جاء به فقال: عم سليمان الفران، فكأن طلقة أصابت صدري، ثم سألته: وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتى بنفسه إلى هنا؟ فقال: أرسلها مع غلامه، فلم يرحني الجواب رغم أنه لم يحقق شكوكي، فقد خطب ودها هذا الرجل قبل ذلك وهاهو يستغل حاجتنا كي يجدد وده لها، فأمتلأت غضبا وغيظا وهممت بقتلها، لكنني اكتفيت بركلها وخرجت إلى طريقي الذي أتسول فيه سائلا نفسي: ماذا أفعل؟ أأعود إلي سليمان الفران فأقتله؟ أم أرصد عبد القوي وأطعنه طعنة قاتلة؟ لكن عجز يدي وإعياء جسدي حال بيني وبين ذلك، ففكرت بالانتحار لأن زوجتي تستطيع إطعامهم على أي حال، ثم جئت أنت وحُلت بينى وبين الانتحار، فهل أدركت الآن شر ما فعلته؟ بحث محمد عبد القوي في جيبه عن نقود فوجد عشرة قروش فأعطاه إياها وقال له: غدا تأتي إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه وسنجد لك على أي حال عملا، وهاك بطاقة تقدمها لمن يعترض طريقك، وقبل أن يذهب سأله ما اسمك؟ فقال: اسمي إبراهيم حنفي.
ثم تحول عنه ذاهبا، لكن فكرة خطرت له ببال، فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجدّ في السير: تري كم أسرة من الأسر التي يشقى بها أمثال إبراهيم حنفي يمكن أن تسعدها النقود التي أخسرها كل ليلة في النادي!!
انتصف الليل ولما يصادف حظ الوجيه محمد عبد القوي غير العبوس، وما انفكت خسارته تنمو وتتضاعف حتى بلغت نيفا وأربعين جنيها في أقل من ثلاث ساعات، وكان هذا دأبه في أكثر لياليه، فلم تعد الخساره تهز أعصابه أو تكرب نفسه.
كان يتعاطاها بغير مبالاة بين رشف الكؤوس وقذف الدعابات ثم ينساها بمجرد الانفصال عن المائدة الخضراء، ولكنه كف تلك الليلة عن اللعب بغير إرادته لشيء دار برأسه فرغب في تنسم هواء الخريف الرطب ومراودة نشاطه بالمشي والحركة، فنهض معتذرا وغادر النادي، وكان الجو لطيفا منعشا.
سارت به خطاه إلي الطريق المؤدي لقنطرة النيل حيث الهدوء الذي تعكره السيارات، وهنا رأى رجلا رث الهيئة في جلباب قذر متقوسا علي سور القنطرة ملقيا برأسه إلي النهر فلم يلق إليه بالا ومضي إلي نهاية القنطرة، وعندما عاد رأى الرجل في مكانه، قرب منه دون أن يشعر، وعندها هم الرجل بإلقاء نفسه في النهر لولا أن السيد محمد عبد القوي أدركه في لحظة فاصلة فأسقطه على الأرض بدلا من النهر ثم سأله: ماذا كنت فاعلا بنفسك؟ فلم يجبه الرجل!
فسأله مرة أخرى: هل كنت حقا تريد الانتحار؟ لماذا؟ دعني أشم فمك.. هل أنت ثمل أم مجنون؟ تكلم ياحيوان.
فقال الرجل بصوت مبحوح أنا جائع.
فنظر إليه الرجل قائلا: كذبت، إن الكلاب الضالة تجد قوتها ولن أصدق أن إنسانا يموت جوعا في هذا البلد، ولكن هل تدمن الحشيش؟ فقال الرجل لك عذرك، فأنت لم تعرف الجوع.. هل ذقت الجوع؟ هل بت ليلة بعد ليلة تتلوى من عض نابه؟ هل ثقب أذنيك عويل أطفالك من نهشه معدتهم؟ هل رأيت صغارك يوما يمضغون عيدان الحصير ويأكلون طين الأرض؟! تكلم يا إنسان، وإن لم يكن لديك ما تقوله فلماذا تحول بينى وبين الخلاص من غائلة الموت؟ فقال له محمد عبد القوي: أتعني حقا أن لك زوجا وأطفالا؟ فعلم الرجل أنه يشك في قوله فقال له: كنت يوما قادرا على الزواج والإنفاق.. كنت عاملا في مصانع عبد القوي شاكر، وهنا هز الاسم أركان الوجيه محمد عبد القوي لأنه اسم والده، ثم قال له: هل حقا كنت عاملا مرتزقا؟ فقال نعم وبلغت يوميتى ستة قروش، ولكن أثناء العمل هوت الآلة على يدي اليمنى فقطعتها ثم ذهبت إلى عبد القوي شاكر فقال لي إن يدك قطعت جراء عدم اهتمامك وهم بطردي من المكان فتوسلت إليه لأن في عنقي أمي وزوجتي وأطفالي الست، فقال لي إنه سيتصدق علي في كل شهر بثلاثين قرشا، ولما لم يجْد هذا المبلغ تعرض أطفالي وجاعت وتهالكنا من الجوع، فبدأت أتسول، وإن هذا الأمر لعظيم علي لولا محنتي فقال له الرجل: أهذا ما دفعك إلى محاولة الانتحار؟ فقال الرجل وهو يهز رأسه كأنه يقول له بل أكثر وأكثر: عدت مساء هذا اليوم إلى الفناء فوجدت أطفالي الصغار وزوجتي نائمين، فاستولت عليّ الدهشة، هل تعودوا الجوع فما عاد يقرصهم؟ فأيقظت أكبر أطفالي لأسأله فما إن قام حتى قالي لي فرحا: أكلنا عيشا ساخنا، فسألته من جاء به فقال: عم سليمان الفران، فكأن طلقة أصابت صدري، ثم سألته: وهل الرجل دعا أمك إلى الفرن أم أتى بنفسه إلى هنا؟ فقال: أرسلها مع غلامه، فلم يرحني الجواب رغم أنه لم يحقق شكوكي، فقد خطب ودها هذا الرجل قبل ذلك وهاهو يستغل حاجتنا كي يجدد وده لها، فأمتلأت غضبا وغيظا وهممت بقتلها، لكنني اكتفيت بركلها وخرجت إلى طريقي الذي أتسول فيه سائلا نفسي: ماذا أفعل؟ أأعود إلي سليمان الفران فأقتله؟ أم أرصد عبد القوي وأطعنه طعنة قاتلة؟ لكن عجز يدي وإعياء جسدي حال بيني وبين ذلك، ففكرت بالانتحار لأن زوجتي تستطيع إطعامهم على أي حال، ثم جئت أنت وحُلت بينى وبين الانتحار، فهل أدركت الآن شر ما فعلته؟ بحث محمد عبد القوي في جيبه عن نقود فوجد عشرة قروش فأعطاه إياها وقال له: غدا تأتي إلى المصنع الذي كنت تعمل فيه وسنجد لك على أي حال عملا، وهاك بطاقة تقدمها لمن يعترض طريقك، وقبل أن يذهب سأله ما اسمك؟ فقال: اسمي إبراهيم حنفي.
ثم تحول عنه ذاهبا، لكن فكرة خطرت له ببال، فقطب جبينه وتساءل كالحالم وهو يجدّ في السير: تري كم أسرة من الأسر التي يشقى بها أمثال إبراهيم حنفي يمكن أن تسعدها النقود التي أخسرها كل ليلة في النادي!!
0 التعليقات:
إرسال تعليق